تشهد التكنولوجيا الرقمية تطوراً متسارعاً يفرض إيقاعه على كل أنواع العمل والتفكير في عصرنا الحالي وعلى مختلف جوانب العمل الثقافي وغيره. وقد استطاعت الكثير من الدول توظيف وسائل المعرفة العصرية لتحقيق خطواتٍ رائدة في خدمة تراثها الوطني وحفظه وحمايته والترويج له. وقد اهتمت المديرية العامة للآثار و المتاحف باكراً بهذا الجانب فأنشأت، قبل سنوات، موقعاً مميزاً وناجحاً، لتغطية أنشطتها وأخبارها وعرض حالة المواقع الأثرية السورية.
إن مواكبة التقدم الحاصل والإمكانيات التي يقدمها، يقتضي أن يتم استغلاله والإفادة منه إلى أبعد الحدود، ولذلك كان لا بد من المبادرة لتطوير موقع المديرية ليظهر بأبهى صوره وأجمل حلله ويحقق العديد من المتطلبات والوظائف العصرية كعمليات البحث المتقدم والوسائل التفاعلية التي تتيح للزائر العام او المتخصص الاطلاع، وبأكثر من لغة، على آخر الأخبار المتعلقة بنشاطات المديرية وفعالياتها، فضلا عن التعرف على المواقع والمباني والمدن الأثرية من خلال الصور والفيديوهات والمنشورات التي أصدرتها.
يتيح الموقع الجديد، ومن خلال أيقونات متعددة، التعريف بالجهود التي تبذلها كوادر المديرية العامة للآثار والمتاحف في مجالات الترميم و الصيانة والحفظ والتنقيب والنشر. ويضاف إليها اطلاق “المتحف الافتراضي” الذي يتيح زيارة المتاحف السورية ومقتنياتها النفيسة في القاعات وخزائن العرض. كل ذلك في سبيل إيصال هذا التراث الثقافي السوري الثمين إلى أكبر عدد ممكن من القراء والمهتمين. وقد أصبح بديهياً القول أن هذا التراث هو هوية كل كائن متحضر، وهذه حقيقة وعاها علماء الآثار منذ وقت مبكر فتهافتوا من أهم المؤسسات والأكاديميات العلمية في العالم من أجل التنقيب في مواقعنا الأثرية وتحقيق أعظم الاكتشافات الحضارية العمرانية والفنية والكتابية وغيرها والتعريف به في كل مكان.
ومن نافل القول، أن الحضارة السورية تتمتع بنكهة تنفرد فيها عن غيرها من الحضارات الأخرى، وهي ثمرة تنوعها وغناها بالألوان الزاهية التي صنعتها جغرافية هذه البلاد، التي تُعدٌّ ملتقى العالم، وجسر التواصل بين قاراته وشعوبه، والبوتقة التي انصهرت فيها ثقافاته، وهذا ما عبر عنه يوماً الشاعر السوري القديم مليغر قائلاً”..أيها الغريب إننا نقطن بلداً واحداً هو العالم، وشيء واحد أنبت كل البشر…”.
وأنصع برهان على عمق حضارة هذا البلد، آلاف المواقع الأثرية التي تنتشر على ثراه، وعشرات آلاف القطع الأثرية التي استخرجت منه وتزهو بها خزائن العرض في المتاحف الوطنية والعالمية، والتي تُعدُّ شواهد على مسيرة الإنسان على هذه الأرض منذ أكثر من مليون عام، تنقل خلالها من حياة الالتقاط والصيد إلى الزراعة والاستقرار والتدجين وصولا إلى تأسيس المدن والممالك واختراع الكتابة والأبجدية وعشرات الإنجازات التي تحققت في الحواضر السورية القديمة كماري اوغاريت وإيبلا ودمشق وحلب وحماه واللاذقية وتدمر ودورا أوربوس والبادية والجزيرة والساحل و غيرها.
لقد أودى الإرهاب بجزء كبير من تراثنا الوطني فتم تدمير الكثير من المدن القديمة بأبنيتها الشامخة، وسُرقت مقتنيات العديد من المتاحف كتدمر والرقة وقلعة جعبر وبصرى الشام وحمص وإدلب، والأخطر من ذلك التنقيب غير الشرعي الذي طال مئات التلال والمواقع الأثرية التي خرجت عن سلطة الدولة، فتم نهب محتوياتها وتدميرها وإزالتها من الوجود. و من الأدلة على ذلك ما فعلته التنظيمات الإرهابية من تدمير في تدمر، وفي حلب القديمة، ودير الزور، والتلال والمواقع الأثرية في أرياف كل المحافظات، وآخرها في منطقة عفرين ومنطقة الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي الذي يقوم جنوده و عملائه بارتكاب أفظع جرائم التاريخ المقترفة ضد التراث الثقافي، وذلك من خلال النهب والتدمير الحاقد والممنهج للمواقع الأثرية مستخدمين في ذلك البلدوزرات الثقيلة.
لقد تحركت المديرية العامة للآثار والمتاحف لفضح تلك الممارسات في المحافل الثقافية الدولية ورفعت الصوت عالياً محذّرة من ضياع قسم مهم من التراث الإنساني في سورية، ومناشدة العالم “المتحضر” من أجل وقف هذه العدوان الوحشي السافر الذي يتعرض لها تراثنا الوطني وإدانة المعتدين، إلا أننا لم نلق آذاناً صاغية، أو ردة فعل ذي قيمة، لوقف الكارثة أو التخفيف منها. وما زال الجرح الثقافي السوري نازفاً ويتعمق كل يوم من خلال عمليات النهب والسلب والتدمير المستمرة، وسيصحو العالم متأخراً حيث لن ينفع الندم، على خسائر لا تُعوّض وضياع لصفحاتٍ نادرة وخالدة من تاريخ و تراث الإنسانية.
ورغم الألم، وبكل مسؤولية، فإننا في وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار والمتاحف- نعاهد شعبنا ووطننا، على أداء رسالتنا في الحفاظ على هويتنا الوطنية المتمثلة بهذا التراث التليد، وأن نبقى الأمناء على أثار سورية وتراثها الثقافي، وسنواصل بذل كل الجهود في سبيل حمايته وصيانته ومعافاته، و فضح كل أشكال التدمير والنهب والسلب الذي يتعرض له. وفي الوقت ذاته، سوف نستمر في إظهار الوجه المشرق والأيادي البيضاء التي تعمل على حمايته ورعايته وصيانته في ظروفٍ قاهرة وفي طليعتها جيشنا الباسل الذي تمكنت وحداته من استعادة عشرات آلاف القطع الأثرية بعد أن دحرت الإرهاب و مُشغليه في عدة مناطق من قطرنا الحبيب. كما كانت قد تمكنت من إنقاذ مقتنيات العديد من المتاحف في المحافظات.
ان بلدا يفتتح المتاحف ويطلق مواقع جديدة للتعريف بتاريخه الأصيل وغناه الاثري الفريد، في ظل ازمة خانقة وحصار جائر يتعرض له، هو بلد ينتصر، وشعبه قادر على النهوض من الرماد ليصل إلى ذرى المجد من جديد.
عدد الزوار 25,465