يقع في بلدة البحارية التي تبعد 5كم عن ناحية النشابية باتجاه الشمال الشرقي، ونحو 20كم عن دمشق باتجاه الشرق، وهو تل واسع مساحته نحو 25هكتاراَ، يعبره من وسطه طريق معبد يتجه شمالاً إلى ميدعا وعدرا، فيه أكثر من قطاع مرتفع، الأعلى هو الذي يقع في الجهة الشمالية ولا يتجاوز ارتفاعه 10م، عن الأراضي المحيطة وهي من السهول الزراعية الخصبة.





بدأت أعمال التنقيب في الموقع منذ عام 1996 من قبل بعثة وطنية شارك بها طلاب المعهد المتوسط للآثار والمتاحف، وترأستها غادة سليمان، وشارك بها زهير محمد ونهى قباني. وقد أظهرت أعمال التنقيب في الموقع استيطاناً يعود إلى نهاية العصر الحجري الحديث وبداية العصر الحجري النحاسي (نحو6000 – 5200 ق.م)، كذلك استوطن الموقع خلال العصر الحجري النحاسي، حيث عثر على عدد من الطبقات الأثرية التي تعود إلى هذا العصر وتمتد من 5200 وحتى 3500 ق.م. كما تنتشر في بلدة البحارية وفي أراضيها الزراعية لاسيما في الجهة الجنوبية الكثير من المعالم الأثرية العائدة إلى العصر الروماني والبيزنطي، ومنها بقايا جدران وأعمدة وتيجان وسواكف وأجران وتوابيت حجرية وكسر فخارية وغيرها، وهو يؤشر إلى الازدهار والتطور الكبير الذي عاشته البلدة خلال هذين العصرين.
لكن أهم المراحل التي عاشتها البحارية، على ما نعتقد، كانت خلال النصف الثاني من الألف الرابع حيث كانت أحد أهم المواقع التي شهدت عبور البشرية من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية في جنوبي سورية وبلاد الشام، أي مرحلة فجر التاريخ، وهذا ما تدل عليه الكثير من لقى ومكتشفات الموقع، والتي لم يسلط عليها الضوء بالشكل المطلوب، ولهذا لم يأخذ هذا التل حقه من البحث والدراسة حتى الآن، ولم يدرس كما يجب، بسبب عدم اهتمام السلطات الأثرية بالبعثة، كونها بعثة تعليمية، وهذا ما نأمل تجاوزه في المستقبل القريب.
تم الكشف على مرحلة الاستيطان الأقدم العائدة للألف السادس وتضمنت بيوتاً دائرية الشكل وبيوتاً عادية لها جدران مبنية من اللبن، كما كشف عن العديد من القبور التي احتوت على هياكل عظمية تم دفنها بوضعيات مختلفة ومنها القرفصاء أو وضعية الجنين، الرأس بأوضاع مختلفة الاتجاهات، وضعت تحته أحياناً، كتلة من الطين على شكل وسادة، وأحياناً تم وضع طبقة من الطين تحت الجثة على شكل فراش، وغطي القبر بكسر الجرار الفخارية.



كما عثر على جماجم إنسانية مفصولة عن الجسد، تحت أرضيات البيوت، وهو ما يدل على وجود عبادة تقديس الأسلاف، وقد دفنت أحياناً بعناية ضمن حفرة دائرية أحيطت بالكسر الفخارية، أو وضع حولها بعض الحجارة. كما عثر على جماجم حيوانية مدفونة وحولها كسر فخارية، ورافق قرن ماعز قبر أحد الأطفال. وقد وجدت في عدد من القبور بعض اللقى منها النصال الصوانية التي وضعت أحياناً على الرأس، وبعض الفخاريات والكرات الطينية والخرز الطينية والحجارة المصنعة على شكل الهلال وتحمل بعض الرسوم.
ومن هذا العصر جاءت مجموعة من الدمى الطينية الأنثوية التي تمثل الربة الأم، كان بعضها بدون رأس، مصنوعة من الطين المشوي ، وتحمل أحياناً بعض الزخارف التي تشير إلى اللباس، رغم ظهور الأثداء. وهناك دمى تحمل زخارف على الرأس، وجرى لصق العيون على شكل “حبة القهوة”. كما تم العثور على دمى حجرية أنثوية يبدو فيها البطن واضحاً ليدل على الخصوبة عند المرأة، وهناك مجموعة من الدمى الحيوانية التي تمثل الماعز والثور والخنزير،والطيور وغيرها ويعود تاريخها إلى النصف الأول من الألف السادس ق.م.
في الطبقات التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري النحاسي وتبدأ نحو 5200ق.م، عثر على بقايا معمارية بعضها متهدم، تضم غرفاً مربعة ومستطيلة الشكل، احتوت أحياناً على مواقد وأفران وحفر لتخزين الحبوب، وقد بنيت جدرانها باللبن المقولب من القياس الكبير (أبعاد اللبنة 40×60سم)، فيما تشكلت بعض الأرضيات من طبقة من الكلس في الغرف المربعة، ورصفت أرضيات الغرف المستطيلة باللبن الأصغر حجماً. كما تم الكشف عن حجرات استخدمت لتخزين الحبوب وحفظ المؤن.
وفي طبقة أخرى عثر على مجموعة من جدران الغرف المبنية من اللبن، و أفران لصناعة الفخار ومصاطب توضع عليها الأواني الفخارية المحضرة للشّي، وتميزت بدفن الموتى بجانب جدران بعض الغرف، بوضعية الجنين، ورافقتهم أدوات صوانية وكرات طينية وكسر فخارية. واستمرت عادة دفن الجماجم الحيوانية تحت أرضيات البيوت ومنها جماجم الخنازير البرية.
وفي طبقة أحدث تعود إلى الألف الرابع ق.م، استمرت عادة الدفن بنفس الطريقة: تحت أرضيات البيوت، وقرب الجدران، وبوضعية الجنين، ورافقت الموتى بعض الأواني الفخارية.
وبدأ يظهر في هذه الطبقة دفن الأطفال بوضعية الجنين داخل جرار فخارية متطاولة ذات فوهات واسعة، ويتم دفن الجرة في باطن الأرض على عمق متر أو يزيد. واستمر تواجد القبور التي تغطى بأجزاء الجرار الفخارية، وقد رافق الدفن جرار وصحون فخارية وأواني فخارية صغيرة (كانت إحدى الجرار الصغيرة ممتلئة بالحبوب المتفحمة)، وحلي من بينها عقود من الخرز الأبيض والأسود مصنوعة من العظام والحجارة. واستمرت عملية دفن الحيوانات بجانب البشر.

آخر الطبقات الأثرية في الموقع، تعود إلى عصر الوركاء (الحجري النحاسي)، وقد قدمت عمارة مهمة في المرتفع الشمالي من التل، وهي مبنى ضخم ذو جدران عريضة مبنية من اللبن الأحمر والبني الكبير الحجم، والمؤكد أنه مبنى عام وهو على الأغلب معبد، بانتظار توسع أعمال التنقيب. كما عثر على بيوت عادية مبنية أيضاً من اللبن، والأهم من ذلك هو العثور على الكثير من اللقى المميزة ومنها الدمى الإنسانية والحيوانية ولاسيما التي تمثل رؤوس الطيور علاوة على ألواح تحمل طبعات على شكل ثقوب كانت تستخدم للعد والحساب، وكذلك الكرات والحصى الطينية التي يعتقد أيضاً أنها استخدمت في عمليات العد والحساب وهي من الابتكارات الحضارية التي مهدت لظهور الكتابة ووضعت نهاية لعصور ما قبل التاريخ، لتبدأ العصور التاريخية القديمة.

وتدل بعض اللقى ومنها الأواني الناقوسية الفخارية التي عثر عليها في التل على أهمية الموقع خلال هذه المرحلة، وهي تشابه مواقع عصر الوركاء الرافدية والتي وجدت في بعض المواقع السورية أيضاً ومنها تل حموكار في منطقة الجزيرة، وتل حبوبة وتل قناص على الفرات الأوسط، وغيرها من المواقع.
وقد تميز فخار البحارية العائد للألف الخامس ق.م، بجودته وبألوانه: الأسود، والأحمر، والبرتقالي، وهو من النوع المصقول جيداً، وحمل أحياناً بعض الزخارف وكانت على شكل ضفائر، أو دوائر غائرة على سطح الآنية.
كما عثر على أواني فخارية رقيقة مصقولة ملونة بالأسود والبرتقالي والأحمر، ولها عرى تزيينية، والأهم من ذلك العثور على كسر فخار ثقافة تل حلف في الموقع وهي على ندرتها تقدم دليلاً على وصول هذه المؤثرات الشمالية إلى هذا الموقع الذي ربما كان هو أقصى مكان تصله في جنوبي سورية. ولهذا نعتقد أن موقع البحارية سيكون من أكثر المواقع التي تعد بتقديم الكثير من النتائج الأثرية المهمة خلال المرحلة القادمة إذا ما قدمت له الإمكانيات والكوادر العلمية المطلوبة.