
الموقع الأثري
يقع تل براك على بعد 40 كم شمال شرق مدينة الحسكة على الضفة اليمنى من نهر الجغجغ عند الحد الشمالي من سهل بلاد ما بين النهرين على أطراف المنطقة الزراعية الممطرة، ويعد من أكبر المواقع في شمال سورية، حيث يبلغ طوله حوالي 1000م، أما عرضه فيبلغ 850م، ويرتفع عن السهول المحيطة به 45 م. وتحيط به مجموعة من البقايا الأثرية يعود بعضها إلى الألف الرابع ق.م،وبعضها الآخر إلى الفترة الرومانية.
اكتسب تل براك أهمية كبيرة لوقوعه على طريق تجارة رئيس يتم عبره نقل النحاس من شرق الأناضول إلى جنوب بلاد الرافدين الفقيرة بالمعادن، حيث يقع أيضاً على طريق تجاري آخر يجتاز حوض دجلة باتجاه جبل سنجار ماراً بتل براك إلى ماردين حيث مناجم النحاس القديمة بالقرب من ديار بكر الحديثة.
البعثات الأثرية
في ربيع عام 1937 م بدأ الباحث الإنكليزي ماكس مالوان Max Mallowan بأعمال التنقيب الأولى في الموقع وكشف عن العديد من السويات الأثرية الهامة،
واستمرت أعماله حتى عام 1938م. وفي عام 1976م تابعت البعثة الإنكليزية بإدارة دايفيد أوتس وجَوان أوتس David and Joan Oates من معهد الآثار في جامعة لندن ومعهد ماكدونالد للأبحاث الأثرية (جامعة كامبردج) أعمال التنقيب في الموقع. ومنذ عام 2006م تمت إدارة الأعمال الحقلية التنقيبية للبعثة من قبل أوغوستا ماكماهون Augusta McMahon من جامعة كامبريدج وذلك تحت الإدارة العامة لجوَن أوتس

السويات الأثرية في الموقع
أظهرت التنقيبات الأثرية في الموقع وجود عدد من السويات والتي يمكن تتبع تسلسلها الزمني من الأقدم وحتى الأحدث كالتالي:
1- عصر حلف
2- عصر العبيد
3- عصر أوروك
4- عصر البرونز القديم
5- عصر البرونز الوسيط
6- عصر البرونز الحديث
7- العصر الهلنستي
8- العصر الروماني
9- الفترة الإسلامية الباكرة
المُكتشفات الأثرية والمعمارية في الموقع
بلغ الموقع أكبر مساحة له في الألف الرابع ق.م حوالي 100هكتار، وبالتحديد في عصر أوروك، والتي شكلت مدينة هامة ازدهرت التجارة فيها خلال هذه الفترة.وعثرت البعثة في الجزء الجنوبي من التل على شواهد معمارية تبين أنها كانت مركزاً لنشاطات حرفية وصناعية تعود إلى فترة أوروك الباكر والوسيط. وبالقرب من البوابة الشمالية للموقع كشف عن سلسلة متتابعة من السويات الأثرية، حيث وصل عددها إلى عشرين سوية، يعود أقدمها إلى 3800 ق.م ضمَّت مبنىً ضخماً استخدم لأغراض عامة، وتوضعت فوقها سوية تعود إلى فترة أوروك الوسيط، وفترة أوروك المتأخر الجنوبي، حيث وجد في داخلها منشأة معمارية متكاملة احتوت على لقى أثرية (أوان- طاسات فخارية) تشبه إلى حد كبير اللقى التي عثر عليها في موقع حبوبة كبيرة على الفرات، وعلى رقيم مسماري عليه إشارات حسابية، مما يدل على وجود نشاط إداري وحضور تجار من الجنوب خلال تلك الفترة.
وكشف مالوان عن بقايا معبد يقع على مرتفع بيضوي الشكل بارتفاع ستة أمتار، وهو مبني من مادة الآجر، وقد أطلق عليه اسم «معبد العيون» إذ اكتشف فيه عدداً من أشكال العيون النذرية، التي تعود إلى عصر جمدة نصر أي 3100- 2900 ق.م. وقد أفادت الدلائل الأثرية بأن المعبد أعيد بناؤه فـي القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، من قبل الملك الأكادي نارام سِن الذي بنى قلعة على قسم لا بأس به من معبد العيون لكن المعبد لم يلبث أن هدم إثر حريق كبير، ليعاد بناؤه في زمن سلالة أور الثالثة فـي عهد الملك أور نامو في الفترة الواقعة بين 2123- 2106 ق.م.
وصل موقع تل براك أوجه من الناحية السياسية في الألف الثالث ق.م، فقوائم إبلا ذكرت أن ناغار (تل براك) كانت أهم مدينة خلال الألف الثالث ق.م في شمال سورية. وقد استمر الاستيطان بعد فترة جمدة نصر من خلال العثور على سوية احتوت على فخار نينوى 5 الملون والمحزز والمحفور، لكنها خُربت بمبنى أحدث، كما عثر على سوية فترة نينوى 5 في قطاعات أخرى من التل، مما يثبت بشكل واضح أن فخار نينوى 5 كان إنتاجه في تل براك و ليس مستورداً. واستمر السكن في الموقع خلال فترة فجر السلالات الباكرة، وكشفت الحفريات الواسعة في هذه الفترة أيضاً عن وجود بناء ضخم يحيط به جدار بيضوي، وقد تعرض هذا المبنى مع مناطق أخرى من الموقع إلى حريق أدى إلى سقوطه
قام شاروكين الأكادي في عام 2235 ق.م باجتياح المدن السومرية، ثم وسّع فتوحاته لتصل من غرب إيران حتى الفرات مؤسساً لخلفائه أقدم إمبراطورية في التاريخ شملت تل براك الذي أصبح في العصر الأكادي عاصمة لشمال شرق سورية، حيث ضمَّ الموقع عدة أبنية هامة تعود لهذا العصر أهمها ما اكتشفه مالوان عام 1937م, وهو المبنى المعروف بالقصر الأكادي الذي بني فوق معبد العيون. أما التنقيبات الحديثة فقد كشفت النقاب عن مبنيين أكاديين حكوميين فريدين من نوعهما، ومن الجدير بالذكر أنه لم يعثر حتى الآن على عمارة أكادية من هذا الطراز في مناطق أخرى. مقابل القصر كُشف عن مجمع معماري ضخم يغطي معظم الزاوية الجنوبية للموقع.
كان أبرز بناء في هذا التجمع هو معبد شيد على الطريقة الرافدية الشمالية، كما عثر أيضاً على ساحة مبلطة بالحجارة خاصة بالاحتفالات، و إلى الغرب منها وجدت أبنية لها طابع إداري فيها العديد من الأختام وفي ساحة الاحتفالات عثر على تمثال لثور جاثم له رأس إنسان، وقد بينت الرقم المسمارية أن هذا التمثال كان رمزاً تعبيرياً للمتعبد في ساحة الإله شمش الذي خصص له هذا المعبد.
وعثر في الجانب الشمالي الشرقي من التل على مجمع معماري آخر ضم معبداً، وثلاث باحات، ويعتقد أنه هجر في بداية العصر الأكادي بسبب كارثة بيئية، ثم أعيد استخدام هذه المنطقة بعد فترة قصيرة، حيث كرست على ما يبدو لتقديم الأضاحي.
احتوى البناء الشمالي الغربي على هياكل عظمية لحيوانات مثل: الحمار، والكلب، والغزال, ويعتقد بأن المعبد خصص لعبادة الإله شاكان إله الرعي، وأن هذا التجمع قام بدور محطة على طريق القوافل التي عملت في تجارة النحاس، حيث استخدمت فيها الحمير لنقل بضائعها, ويعرف من الوثائق الكتابية المكتشفة أن حيوانات الجر كانت ترسل إلى مدينة ناغار، وتشير وثائق إبلا إلى أن ناغار كانت مشهورة بجودة حيواناتها كالبغل، كما كشف عن منازل للخاصة من السكان في أماكن مختلفة من التل تعود للفترة الأكادية المتأخرة.
بعد انتهاء العصر الأكادي لعب الموقع دوراً هاماً كعاصمة محلية للحكام الحوريين الذين قاموا على الأرجح بإعادة بناء قصر الملك الأكادي نارام سين وذلك بعد عام 2000ق.م، في تلك الفترة اقتصر الاستيطان على الجزء الشمالي من التل, وقد عرف تل براك عندها كمركز ديني وموطن للآلهة التي تسمى سيدة ناغار.
وفي القرن السادس عشر ق.م أصبح موقع تل براك مدينة رئيسة حيث ظهرت قوة جديدة في المنطقة هي مملكة ميتاني، التي امتدت سيطرتها من جبال زاغروس شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً, وكانت قاعدتها الأساسية في مثلث حوض الخابور.
وكان الاكتشاف الرئيس هو القصر المتواجد على قمة الضلع الشمالي المؤلف من غرف استقبال كبيرة. وتشير المكتشفات العائدة للفترة الميتانية بأن تل براك خلال هذه الفترة هو المدينة الثانية لتائيدو التي يعتقد بأنها تتوضع في تل الحميدية.
أمّا في بداية القرن الثالث عشر ق. م فقد غزا الآشوريون المدينة الميتانية مرتين فدمروها. ثم تراجع حجم الاستقرار في تل براك خلال الألف الأول ق.م, فقد بينت الأدلة الأثرية بأن الاستيطان خلال تلك الفترة كان مقتصراً على الجهة الشمالية الشرقية من التل الرئيس، وذلك من خلال الكشف عن بناء استخدم لأغراض عامة خلال القرنين العاشر والتاسع ق.م، وتمثال بازلتي ضخم لثور برأس إنسان يعود إلى الفترة الأشورية الحديثة, بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الفخاريات التي تعود إلى الفترة الرومانية، أما في القسم الجنوبي من التل فقد تم التعرف على طريق يعود إلى الفترة الهلنستية.

أهم اللقى الأثرية
كشف في تل براك عن العديد من اللقى الأثرية الهامة ومنها مجموعة من التماثيل الصغيرة، وبشكل أقنعة ورؤوس صغيرة والتي أطلق عليها دمى العيون، وما يميز تلك التماثيل الصغيرة، عيونها الشديدة الاتساع.
كما اكتشفت مجموعة من الرقم المسمارية، التي تعبِّر عن أقدم محاولات الكتابة التي قام بها الإنسان، وهي المرحلة التي تدعى مرحلة الأرقام والدوائر والإشارات.
وعثر تحت جزء من أرضية منـزل في الجهة الشمالية – الغربية من التل على كنـز ثمين مؤلف من عدة قطع فضية وقوالب بأشكال متعددة، وصفائح مطوية، وقضبان دائرية أو حلزونية، عرفت بأنها شكل مبكر لأدوات السك، إضافة إلى قطع من اللازورد وخرز من العقيق الأحمر، وخواتم من النحاس، ونسر برأس أسد, وصفيحة ذهبية رقيقة للتزيين في وسطها دبوس زينة نقش عليها أسدان متقاطعان، وختم أسطواني نقشت عليه رؤوس حيوانية تشير إلى طريقة صنع هذه اللقى، وإلى ارتباطها بجنوب بلاد الرافدين حوالي منتصف الألف الثالث ق.م.
كما اكتشفت لوحة مسمارية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تمثل رسالة موجهة إلى الملك طاناشومارا وهو إبن الملك الميتاني شوتارنا وفيها يرجوه مرسلها إطلاق سراح رجلين وامرأة وأولادها، وهذه الوثيقة المسمارية كشفت عن اسم ملك جديد من ملوك الميتانيين لم يكن معروفاً في السابق.
كما تم العثور على مجموعة هامة من الأدوات الصوانية تعود إلى العصر الأكادي، وعن رؤوس سهام دقيقة الصنع تعود إلى عصر البرونز القديم 2300 ق.م وطبعات جديدة لأختام مسطحة، وسدادات جرار فخارية نقشت عليها رسوم حيوانات ومجموعة هامة من الأدوات والأواني الفخارية يعود تاريخها إلى الألف الرابع والألف الثالث قبل الميلاد، بالإضافة إلى مجموعة نادرة من الدمى الطينية الجميلة.
المراجع العلمية و الصور من