الموقع الأثري
يقع تل حميرة في منطقة القلمون 95كم شمالي دمشق، وإلى الشمال الشرقي من مدينة دير عطية ويبعد عنها نحو(11كم), وسط بلدة أخذ اسمه منها، على مجرى مسيل مائي، ويعرف بإسم تل الصهريج. شكل التل شبه مربع طول ضلعه نحو 75 متراً، ارتفاعه عن السهل المحيط نحو 7 م، و عن سطح البحر نحو 1200م ، إحداثياته (36° 49’E 34°58’N).
تعرض الموقع لأعمال التخريب والحفر التي أزالت الكثير من معالمه وقلصت حجمه إلى الحد الذي هو عليه الآن.
ذكره وصفي زكريا في كتابيه الريف السوري، والقرى والبلدان في جنوب بلاد الشام، في معرض حديثه عن بلدة حميرة حيث قال أنه لا يوجد في القرية آثار قديمة تستحق الذكر سوى تل الصهريج فقد وجد ضمن هذا التل الكثير من العظام والجماجم والبيوت المبنية من اللبن، ويعتقد أنه كان عبارة عن قرية قديمة ثم احترقت.
البعثات الأثرية
بدأت الدائرة أعمال التنقيب في التل سنة 2010 واستمرت حتى عام2012 حيث أنجزت ثلاثة مواسم تنقيب، تم خلالها إجراء رفع طبوغرافي للموقع وفتح بعض الأسبار الأثرية فيه. وقد أظهرت الأعمال وجود ثلاث طبقات أثرية في التل يعود أقدمها إلى نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي فيما تعود الطبقتان الثانية والأولى إلى عصر الحديد الثاني والثالث (بين القرنين الحادي عشر والسابع ق.م).


السويات الأثرية في الموقع
أظهرت التنقيبات الأثرية في الموقع وجود عدد من السويات والتي تتبع التسلسل الزمني التالي من الأقدم وحتى الأحدث:·
1- العصر الآرامي ( ق 9 و 7 ق.م)
2- العصر الحديدي الأول (1050- 900 ق.م)
3- نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي (1300-1100 ق.م)
المُكتشفات الأثرية والمعمارية في الموقع
ظهرت في الطبقة الأولى(H1)،
العائدة إلى العصر الآرامي، وتحديداً للقرنين التاسع والسابع ق.م، بقايا أبنية كبيرة لها جدران عريضة مبنية من اللبن على أساسات من الحجر الكلسي، مايزال بعض من هذه الجدران محفوظاً بشكل جيد حتى ارتفاع 2م. وقد تم الكشف في الزاوية الجنوبية الغربية من الموقع عن غرفة صغيرة يوجد في وسطها موقد. لكن المخطط الدقيق لهذه المباني لم يعرف حتى الآن، نظراً لتعرضها للتخريب الشديد، ولحاجته إلى مزيد من أعمال التنقيب.
عثر في هذه الطبقة على فخار متوسط ورديء الصنع أغلبه يعود لجرار تخزين. ومن أهم الكسر الفخارية جزء من فوهة وكتف جرة تحمل نصاً كتابياً قصيراً (غير كامل) مؤلفاً من بضعة أحرف آرامية هي “د ر ر ح م “. وقد رجّح الدكتور جباغ قابلو، أستاذ الآراميات في جامعة دمشق، أنها ربما كانت دار الرحمن، بمعنى معبد الإله، وهذا ما يعطي إشارة واضحة إلى احتمال وجود معبد في الموقع، ونعتقد أن يكون جزء من بقايا الأبنية الظاهرة على وجه التل، ذات الجدران العريضة، هو مبنى المعبد الذي تم الإشارة إليه في النص المنقوش على كسرة الفخار، أما البقايا الأخرى فهي جزء من القصر.


أما الكتابة المدونة على الكسرة الفخارية فيوجد شبيه لها في تل أفس حيث عثر على كسرة آنية فخارية تحمل عدداً من الأحرف الآرامية التي ربما كانت تشير لأسم الإله الآرامي “إيل – وير” Ilu-Wēr الذي جاء ذكره في منحوتة زكير ملك حماه ولـُعش التي اكتشفت في تل أفس، وقد كان هذا الإله حامياً لهذا الملك من هجوم التحالف الذي قاده ضده ملك دمشق بر – أدد بن حزائيل، وتكريماً لهذا الصمود أشاد زكير معبداً له في عاصمته أفس التي عرفت أيضاً باسم حزرك، كما يوجد ما يشابه هذه الكسرة الفخارية، وخاصة من حيث طريقة الكتابة عليها، في تل الكزل الواقع في سهل عكار.
كما جاءت من هذه الطبقة بعض الأواني الفخارية التي حمل بعضها طبعات أختام مسطحة نفذت على شفاه الجرار أو على الكتف، وهي تشير لوجود تجارة ناشطة في الموقع لأنها تدل على اسم التاجر أو مالك البضاعة. كما عثر على الكثير من الثقالات الحجرية المثقوبة التي تستخدم في صناعة النسيج وغزله لا سيما في الأنوال.

الطبقة الثانية(H2)،
وتعود إلى العصر الحديدي الأول (1050- 900 ق.م) عثر فيها على بقايا عدد من المباني ذات الطابع السكني والصناعي بنيت جدرانها من اللبن على أساسات حجرية، فيما بنيت بعض الجدران من الطين المدكوك. وقد وجدت في أبنية هذه السوية غرفة مؤونة فيها جرار وأوانٍ طينية للتخزين احتوى بعضها بقايا مواد غذائية مثل البقول والحبوب وغيرها. كما عثر فيها على العديد من مجارش الحبوب والأجران البازلتية والكلسية, وبقربها فرن وموقد للنار.
وعثر أيضاً في هذه الطبقة على عدد كبير من الثقالات الحجرية المستخدمة في صناعة المنسوجات، علاوة على بعض الوزنات الحجرية. وهناك عدد من الأواني الفخارية من بينها بعض المكاييل وجرار التخزين. وعثر على ختم دائري كبير الحجم له مقبض نحت عليه مشهد طقسي يتضمن صوراً لأشخاص يرقصون مع بعض المشاهد النباتية والحيوانية المحيطة، يوجد على السطح الأعلى لمقبض الختم مشهد على شكل صليب رمز شجرة الحياة والخصب والديمومة ومعرفة البشر للإله ومعرفتهم للوجود والطبيعة.
أما الفخار فكان من النوع العادي، حمل أحياناً بعض الزخارف التي نفذت بطريقة الحز أو الرسم باللون الأحمر المائل للسواد، وهناك كسرة عليها وجه نافر لثور نفذ بطريقة اللصق، كما عثر على عدد من الكسر الفخارية التي تحمل طبعات أختام مسطحة على الشفاه أو العرى وفيها أشكال بشرية ونباتية وحيوانية، ظهرت أحيانا بشكل مختزل. من أهم الطبعات مشهد شجرة يقف تحتها شخصان، وطبعة تتضمن مشهداً لشخص ربما(إله) يجلس على كرسي، ومشهد غزالة ترضع صغيرها، ومشهد الصليب، ومشاهد حيوانية مختلفة.



الطبقة الثالثة(H3)،
وهي تعود إلى نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي (1300-1100ق.م)، ظهرت فيها بعض الأرضيات السكنية وأساس حجري لجدار يبلغ عرضه (120سم)، علاوة على بعض الجدران الصغيرة المبنية من اللبن والقائمة على أساسات من الحجر الكلسي القاسي. ويلاحظ وجود رماد سميك على أرضيات هذه الطبقة مما يشير لحريق ودمار كبير تعرض له الموقع في نهاية هذه المرحلة.
وقد عثر على العديد من الأفران والأجران وأدوات جرش الحبوب والعديد من الأواني الحجرية المصنوعة من الحجارة البازلتية غير المتوفرة في المنطقة مما يعني أنها قد استوردت من أماكن أخرى. وهناك كمية كبيرة من الثقالات الطينية وبعض فلك مغازل النسيج الطينية والحجرية، وأدوات عظمية تستخدم في صناعة النسيج. واستمر وجود طبعات الأختام مختلفة الأحجام على عرى وشفاه الأواني الفخارية وهي تحمل أشكالاً حيوانية ونباتية.
تأتي أهمية تل حميرة من كونه محطة مهمة تقع في منتصف المسافة بين حمص ودمشق الواقعتين على أهم وأنشط طرق التجارة في تاريخ الشرق القديم، والذي كان يمتد من بلاد الرافدين ثم شمال ووسط سورية إلى جنوبها وصولاً إلى فلسطين ومصر. وربما كان الموقع، أهم محطة قبل دمشق، وبعد نشالا/نزالا (القريتين حالياً)، بالنسبة للطريق القادمة من تدمر والفرات. كما ويعد الموقع مركزاً إدارياً ودينياً وتجارياً مهماً على تخوم البادية السورية، ومركز تسوق وتبادل للسلع بين قاطني هذه البادية وبين تجار الموقع الذين كانوا يتزودون بكل ما يحتاجونه من بضائع من قوافل التجار العابرة والذي كان هذا الموقع يشكل أحد أهم محطاتها، خاصة خلال الألفين الثاني والأول ق.م.
والملفت للنظر هو العدد الكبير من الثقالات الحجرية المستخدمة في صناعة النسيج التي يعتقد أن ورشها كانت تعمل في كنف المعبد، ويدل وجودها الكثيف وتعاقبها في كافة الطبقات الأثرية، على عراقة وأصالة هذه الصناعة والدور الكبير الذي لعبته في اقتصاد الموقع وكل المنطقة. وقد كانت المادة الخام (وأكثرها من الصوف) تؤمن عن طريق سكان البادية المجاورة من مواشيهم، فيجري تصنيعها لتصدر لهم ولبقية الأسواق، قطعاً من النسيج والقماش المزركش الذي طالما جاء ذكره في قوائم الغنائم التي حصل عليها ملوك الدولة الأشورية الحديثة. ومن المؤكد أن عدداً من هؤلاء الملوك قد مرَّ بهذا الموقع أثناء قيادة حملاتهم العسكرية الموجهة نحو دمشق وجنوب سورية، ومن هؤلاء شلمنصر الثالث الذي التقى في سنة حكمه الثامنة عشرة(841ق.م) جيش حزائيل ملك دمشق المتحصن في قمة جبل سانيرو Saniru, الواقع قبل جبال لبنان, فقاتله وهزمه، ثم طارده وحاصره في دمشق، مدينته الملكية:
” في سنة حكمي الثامنة عشرة من اعتلائي العرش، عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة, وثق حزائيل ملك دمشق بقوة جيشه, وحشد الكثير من القوات, وتحصن في قمة جبل سانيرو Saniru, الذي قبل جبال لبنان, قاتلته وهزمته, قتلت ستة عشر ألفاً من رجاله المقاتلين, وأخذت منه 1121عربة و470 من خيول فرسانه واستوليت على معسكره, وليحفظ حياته، فرً هارباً ولكني طاردته وحاصرته في دمشق مدينته الملكية, وقطعت بساتينه وسرت إلى جبل حورانو Hauranuودمرت وأحرقت الكثير من المدن وحملت الكثير من الجزية, وسرت إلى جبل بعلي رازي Ba’li razi والذي هو نتوء في البحر, وأشدت هناك تمثالاً ملكياً لي”.
وأعاد شلمنصر مهاجمة دمشق في سنة 838ق.م، ثم في سنة 831ق.م وسلك نفس الطريق واصطدم مع حزائيل المتحصن في مدينة دنابُ Danabu فهزمه وطارده حتى عاصمته دمشق، فحاصرها، ولما لم يستطع النيل منها ،خرّب غوطتها ودمّر المدن التي كانت تتبع لها.
كما سلك الملك الأشوري أدد – نراري الثالث نفس الطريق في مهاجمته دمشق، وكذلك فعل الملك تيجلات – بلاصر الثالث بين 737 ـ 735ق.م والذي قام بتخريب معظم المدن التابعة لدمشق وقطع أشجار الغوطة وخرب بساتينها، وذكر سيطرته على مدينة خدرا Ha-a- da- ra التي رجح بعض الباحثين أنها عدرا الحالية، أو القطيفة المجاورة لها (أدرين Addrin في الفترة الكلاسيكية)، والتي كانت إحدى منتجعات الملك رصين آخر ملوك دمشق الآرامية.
وقد استطاع تيغلات – بلاصر، في آخر حملة له، احتلال دمشق عام 732ق. م ثم قام بتقسيمها إدارياً لسِت عشرة ولاية منها صوبيتِ (صوبا) الواقعة في سلسلة جبال لبنان الشرقية والتي يتبع لها جبل سانيرو، الوارد ذكره أكثر من مرة في الحوليات الأشورية، وهو على الأرجح جبال القلمون الحالية حيث تتوضع بلدة الحميرة في وسطها. ومن الممكن جداً أن يكون الموقع، في جبال سانيرو، الذي أعتاد ملوك دمشق على قضاء صيفهم فيه (خدرا في عهد رصين)، أو اعتادوا الاحتشاد فيه والتصدي للجيش الأشوري (دنابُ في عهد حزائيل)، من الممكن أن يكون هو نفسه تل حميرة، لاسيما وأن التحريات الأثرية التي قامت بها دائرة آثار ريف دمشق في منطقة القلمون، وكذلك منطقة عدرا، لم تثبت حتى الآن، وجود مواقع أخرى تعود إلى هذه الحقبة، أو توازي هذا التل أهمية.
ويُشارُ أخيراً إلى وجود الكثير من المعالم الأثرية في بلدة حميرة ومحيطها منها، القناة الرومانية التي تحاذي التل من الجهة الشرقية، وثمة تلان أثريان يدعى الأول بتل الفاخورية ويقع إلى الشمال الشرقي من تل حميرة بمسافة تقارب 300م، وهو تل مخرب بفعل تجريف تربته ونقل حجارته، وإلى الغرب من البلدة يقع تل الحمّام.
إعداد النص : محمود حمود – ابراهيم عميري دائرة آثار ريف دمشق

عدد الزوار 1,925